النسيان راحة ونعمة


النسيان راحة ونعمة

النسيان… ليس خيانة لما كان، بل رحمة بنا ونجاة لقلوبنا ، هو يد خفية يمدّها الله إلينا، ليمسح عن أرواحنا غبار الخذلان، ويطفئ حرائق الذكريات، ويهمس لنا برفق : “امضِ… لقد انتهى الدرس”.

جلس أمام نافذته في مساء هادئ ، يراقب المطر وهو ينساب على زجاج الغرفة ، كأن السماء تغسل قلبه بصوتها الرتيب ، ويتذكر اول يوم تقابل معها .

كان عقله مشوشاً بالذكريات، صورٌ تتسلل إليه بلا استئذان، ضحكات قديمة، ملامح رحلت، ووعود ذابت مع الوقت ، لسنوات عاش أسيراً لها، يفتح أبواب الماضي كل ليلة وكأنه ينتظر عودة أحد… 

 لكنه لم يأتِ أبداً.

في تلك اللحظة، شعر بشيء مختلف، كأن قلبه بدأ يفرغ نفسه من الثقل، كأن يداً خفية تربّت على كتفه وتهمس : “لقد حان الوقت… اترك ما يؤلمك”

لم يكن النسيان فجائياً ، بل جاء على مهل ، كالغيم الذي يزحف ببطء حتى يحجب شمس الحزن . 

اكتشف أن النسيان ليس خيانة لما كان ، بل إنقاذٌ لما تبقى منه.

مع كل يوم، بدأ يتذكر أقل… والوجع الذي كان ينهش صدره صار أخف ، الحنين ما زال موجوداً ، لكنه أصبح أليفاً ، لم يعد يجرحه كما كان ، بل يمر أمامه مثل مشهد قديم شاهده مئات المرات ، وفي كل مرة يردد ( لا حول ولا قوة إلا بالله ، حسبي الله ونعم الوكيل) .


أدرك أخيراً أن النسيان قوة، وأن الراحة الداخلية لا تأتي إلا حين نغلق الأبواب التي لم يعد وراءها شيء . ابتسم وهو يهمس لنفسه : “الحمد لله… على هذه النعمة التي أعادتني إلى الحياة” . 

رفع عينيه إلى المطر مرة أخرى، وشعر أن الغد أقرب مما يظن ، وأن قلبه بات مستعداً لفرح جديد ، بعيداً عن كل ما مضى كان بمثابة السم فالعسل . 

كم مرة تمسكنا بالماضي بأصابع مرتجفة ، نحمل وجوهاً أنهكتنا ، وأحاديث كنا نعيدها في خيالنا كل ليلة ، نظن أن التمسك بها وفاء ، بينما هو في الحقيقة سجن صنعناه بأيدينا ، حتى يأتي النسيان كغيمة صيف ، تمطر على قلوبنا فتغسلها من الأثر ، وتعيد إليها قدرتها على النبض بلا ألم .

إنها الراحة التي تلي السهر الطويل ، والسكينة التي تهبط بعد صراع الأفكار ، والابتسامة التي تعود فجأة بعد دموع كنا نظن أنها لن تجف .

النسيان لا يقتل الحنين ، لكنه يروّضه… حتى يتحول إلى ذكرى هادئة ، لا تؤلمنا بل تذكرنا أننا مررنا في يوم من هناك ، وخرجنا أقوى مما كنا .


هناك لحظات نكتشف فيها أن التشبث بالماضي أشد إيلاماً من تركه ، وأن حمل ذاكرة مليئة بالخذلان أثقل من أن نواصل السير ، حينها يصبح النسيان شفاءً ، وتصبح المسافة بيننا وبين ما مضى بوابةً لبداية جديدة نرى فيها أنفسنا .

النسيان ليس ضعفاً ، بل هو قمة القوة… أن تقول لنفسك : “لقد تألمت ، لكني أستحق أن أعيش بسعادة” ، هو النعمة التي تعيد لنا أنفسنا ، وتردّ ملامحنا الحقيقية ، وتفتح أمامنا أبواب الفرح بعد أن أغلقها الحزن .


الخاتمة : 

وفي النهاية… تعلّمت أن النسيان ليس هروباً من المواجهة ، بل هو أعظم مواجهة نخوضها مع أنفسنا ، أن تمحو من قلبك ما كان سبباً في نزفك ، وتختار أن تحفظ ما تبقى من سلامك ، هو أرقى أشكال القوة .

فلنترك ما مضى يمضي ، ولنعش ما تبقى لنا بصفاء… فالحياة لا تنتظر الحزين ، لكنها تحتضن من قرر أن يبتسم رغم كل شيء ، والحمد لله دائماً وأبداً على نعمة النسيان ، التي تجعل الغد أجمل من الأمس ، وحسبي الله ونعم الوكيل .


مع السلامة  🌷

💙 دمتم في رضا وطمأنينة وسلام 

ونلتقي دومًا على سطور من صدق وإلهام ✨✍️


🍃 إلى لقاء قريب بإذن الله.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جعلتني وحيداً بدون أحد

قصة تهز المشاعر